رحلة بين الاطباء هل أتوجه إلى الطبيب (الجسدي) أو الطبيب (النفسي)؟ هل المعاناة من الأوجاع…
كيف ينظر المجتمع إلى فكرة العلاج النفسي؟
تعد وصمة العلاج النفسي من الأمور التي يصعب تجاوزها في مجتمع واجه لسنوات طويلة شعوره بالخجل من حالة الاضطراب النفسي والنعت بالجنون لكل من يعبر عنه أو يعيشه، وواجه المجتمع صورة إعلامية متلفزة مشوهة لكل ما يتعلق بالطب والأمراض النفسية، ولتجاوز هذه الوصمة النفسية والارتقاء بمفاهيم المجتمع حول الجانب النفسي يحتاج إلى الكثير من الصور المعززة والتجارب الايجابية التي تبني تفهما وتقبلا لفكرة المرض النفسي أكثر من رفضها والشعور بالعار حولها.
وقد أثرت هذه الصورة على العلاقة مع العلاج النفسي وصورة الطبيب أو المعالج النفسي بعدة طرق.
ومن أبرز صور شعور الوصمة حول العلاج النفسي:
أولا: الشعور بالعار من أن يعرف حتى أقرب المقربون بوجود اضطراب لدى الشخص، وإخفاء الأمر عن معظم من حوله كي لا تهتز صورته بينهم، وأحيانا تخفي الزوجة عن زوجها هذا الأمر كي لا يراها ناقصة، وفي بعض الحالات يخفي الرجل اضطرابه عن زوجته وبالذات قبل زواجه بها كي لا ترفضه، وفي حالات أخرى يتحرج آخرون من زيارة العيادة النفسية أو مكتب الاستشارات كي لا يراهم أحد ويعرف أنهم يتلقون المساعدة، وتخفي العائلة خجلها بصورة ابنها المضطرب عن الجميع بطريقة تزيد من ضغط حالته النفسية، وقد يتم حبس الشخص المضطرب أو منعه من رؤية الآخرون طالما كان مضطربا وتتم محاصرته اجتماعيا في حالات أخرى، وللأسف كل هذه المشاعر المخجلة تكون كلها على حساب نفسية الشخص وحاجته للدعم والتقبل الاجتماعي.
ثانيا: الطبيب النفسي يختلف عن بقية الأطباء في زيارة الناس له وراحتهم أثناء دخولهم عنده، وسهولة ترددهم على عيادته، ولا تتم زيارته وطرق بابه إلا في حالة الشدة النفسية، يعني بعد أن يفقد المريض فعلا سيطرته على حياته، فيذهب إليه وهو مضطر في أصعب أحواله.
اقرأ: لماذا يصعب اتخاذ قرار بالتوجه للعلاج النفسي لدى أفراد المجتمع؟
ثالثا: كثيرا ما نسمع شيء من التعميمات والأحكام والسخرية كذلك حول ما يحصل في العيادة النفسية أو مكتب الاستشارات النفسية، ومنها مثل أن يقول أحدهم لمن يفكر بالتوجه لطلب المشورة أو العلاج النفسي: بأنك تبحث عن فرصة كي تتكلم وتعبر عن نفسك وبأنك فقير التفهم وبأنك تبالغ في توقعاتك من المعالجين (وكأنه شخص ضعيف)، وأحيانا يتم التعبير عن الأمر بأسلوب الاستهزاء بأن من حولك غير كافيين لك لتحدثهم وتريد خسارة نقودك مقابل الكلام فقط!
ومعظم الأحكام والتعبيرات التي تطلق بحق حقيقة العلاج النفسي غالبا مصدرها غرور النفس لدى شخص لم يخوض تجربة تشبه تجربة الشخص الآخر الذي يحتاج للمساعدة كوضع طبيعي مثله مثل كل البشر، وبالتالي يلقي بحكمه عليه وعلى تجربته من باب تأكيد قوة ذاته هو واستصغار لألم الآخرين!
وأحيانا يكون مصدر هذه الأفكار كذلك أحيانا مرتبط بالصورة الذهنية الجمعية التي تشكلت خلال سنوات طويلة متراكمة حول العلاج النفسي من صور متكررة في الإعلام والتلفزة، ابتداء من صورة الطبيب النفسي الذي يستقبل المريض المتعب قليلا ولكن يجعله يخرج من العيادة بشكل أسوأ، أو يكون ذلك الطبيب هو من يحتاج لمن يفهمه ويساعده ويتكلم أو يتصرف بأسلوب لا منطقي، وهذا فيه تصغير لصورة هذه الفئة الواعية من المجتمع.
ومن الصور الإعلامية التي أثرت في وعي المجتمع الجمعي تجاه فكرة العلاج النفسي صور المستشفيات التي فيها المرضى المضطربون نفسيا والتي تركز دائما على مشاهد فيها حالة قسوة من الأطباء والممرضين وإظهارهم بمظهر مخيف أو فيه شيء من التصرفات المضطربة، وفي ذات الوقت التركيز على المرضى الذين يتصرفون بحالات ذهانيه حادة، وبالتالي أصبحت أي فكرة تتعلق بالعلاج النفسي تعني هذا العالم المخيف، لدرجة أنني خلال عملي واجهت أشخاصا ممن يعملون في الحقل الطبي الجسدي يخشون على بيوتهم أو أزواجهم أو أبنائهم من فكرة زيارة الطبيب النفسي أو المعالج النفسي بحجج وادعاءات تنم عن قلة وعي بكل أسف.
رابعا: يحمل بعض ممن يتوجهون إلى العلاج النفسي صورة مبالغ فيها قليلا وتوقعات فائضة عن قدرات الطبيب النفسي أو الاخصائي النفسي، مثل توقع الحصول على نتيجة فارقة لمجرد زيارته، وكأنه يحمل عصا سحرية يمكنها أن تنهي المشكلة، ولا يدركون أن العلاج النفسية عملية إنسانية متكاملة فيها مراحل مختلفة، يتم من خلال الدواء النفسي أو الجلسات متابعة الشخص للتخلص من وضعه.
كما يستغرق آخرون في رسم تصورات مسبقة حول شخصية الطبيب أو المعالج وأسلوب الحوار معه ومدة الحوار وفي أي أمر سيتحدثون، وبالتالي يحكمون على تلك الزيارة بناء على التوقعات التي رسموها مسبقا، ويعود ذلك الخوف ورسم التوقعات والتصورات حول الطبيب والمعالج النفسي إلى مدى دقة وأهمية مهنة العلاج النفسي التي تجعل من الشخص يلقي بأصعب الاشياء بالنسبة إليه وهو شعور بالألم الذي قد لا يخبره لأحد سوى في حضرة هذا الشخص المعالج.
خامسا: يعتقد كثيرون أن ما يجري داخل الغرفة العلاجية مجرد كلام كأي كلام، وبالتالي يتساءلون حول جدوى المواضيع التي يتم التركيز عليها، ويحرصون على استغلال الجلسة على طريقتهم، ولا يتفهمون مثلا بأن العلاج النفسي له سرعته كي يحصل المنتفع على النتيجة المطلوبة، وقد واجهت في عملي مع بعض الحالات أشخاصا غادروا الجلسات النفسية لمجرد شعورهم بأن الكلام الذي جرى في الجلسة كان كلاما عاديا ليس أكثر حسب تفكيرهم، وآخرون كثر كانوا يتعرضون لتحقيق وأسئلة من قبل أهلهم أو مرافقيهم عما جرى في الجلسة للتأكد أن ذلك ليس مجرد كلام! وبعضهم كان يسأل عن الخطة ويتأكد من متابعة المعالج لملفه لخوفه من أن يكون الأمر مجرد جلسة كلامية، وآخر رغم أنه يتحسن إلا أنه يكرر السؤال مرات عديدة حول: كيف تتم معالجتي الآن؟ وهل هكذا أنا أتحسن؟!
وفي النهاية يخرج المنتفع بنتيجة جيدة ولكن بعد كمية من الشك والقلق بشأن محتوى العلاج النفسي ومحاولة التخلص من فكرة المجتمع المنتشرة بأنه لا يوجد شيء يستحق في أن تتوجه لمعالج، حتى يجد المعالج نفسه مضطرا لمتابعة تساؤلات الشخص وتوكيداته حول جدوى التزامه في العلاج من ناحية، وحل مشكلته النفسية من ناحية أخرى.
وفي الختام عزيزي القارئ يبقى هنالك دور رئيسي لي ولك ولكل شخص يبني وعيا في هذا المجتمع حول نشر الصورة الصحيحة للعلاج النفسي وجدواه وطرقه وادواته، وستجد إجابة حول حقيقة ما يجري داخل الغرفة العلاجية في مقال آخر.
This Post Has 0 Comments